أطفال الشّوارع في تونس بين (5) و (8) آلاف طفل.. جرائم.. مخدّرات.. جنس ولقمة سائغة للإٍرهاب.. من المسؤول؟؟؟
ما ينفكّ الخبراء والأخصائيون، بين وقت وآخر، يطلقون صيحات فزع من تفشّي ظاهرة “أطفال الشّوارع” في تونس وطالبوا السلطات ومنظمات المجتمع المدني بوضع خطة اجتماعية علمية لانقاد الآلاف من الأطفال من التشرد وتداعياته وفي مقدمتها الإدمان على المخدرات بأنواعها.
ويرجع هؤلاء الخبراء الارتفاع المفزع لأطفال الشوارع خلال السنوات الـ (5) الماضية التي تلت الثورة إلى طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها الجهات الرسمية، معتبرين أنّها لم تقم على أساس برامج مدروسة وواضحة تعالج المشاكل الحقيقية للعائلات التونسية وإنما اكتفت بـ”إجراءات ترقيعيّة” وبـ”الوعود المؤجّلة” ممّا زاد في تعميق بؤس وحرمان وتهميش الفئات الهشة بطبعها.
وقد كشفت دراسات وتقارير منجزة نشرت نتائجها في بعض وسائل الإعلام التّونسي بتاريخ الجمعة 15 أوت 2014 أن عدد “أطفال الشوارع” بصفة إجماليّة يقدر بنحو (5) آلاف طفل، فيما يقول مختصون في دراسة الطفولة بأن العدد يفوق (8) آلاف طفل موزعين على مختلف جهات البلاد من بينهم (3) آلاف طفل ينتشرون في تونس العاصمة و الأحياء الشعبية المجاورة، حيث أظهرت الدراسات نفسها أن 70 بالمائة من أطفال الشّوارع في تونس يستهلكون المخدرات وأن 40 بالمائة منهم مدمن عليها اضافة إلى أنّ 50 بالمائة منهم يتعاطون الكحول في حين تتعرّض نسبة كبيرة من الأطفال المشرّدين من الجنسين الى التّحرش و الاعتداء الجنسي.
وتقول هذه الدّراسات أنّ ظاهرة “أطفال الشوارع” ليست بجديدة على المجتمع التّونسي ولكنّها كانت “محدودة جدا” بشكل لم يتجاوز فيه عدد هؤلاء الأطفال مستوى 600 طفل وذلك قبل سقوط نظام “المخلوع” غير أن الظاهرة شهدت نسقا تصاعديا “كارثيا” بحلول 2011 حيث ارتفع عدد الأطفال المشردين إلى (3) آلاف في العام نفسه وإلى (5) آلاف سنة 2012 ليبلغ مع نهاية 2014 ما يناهز (8) آلاف طفل، من بينهم من يهيمون وهم حفاة وعراة في كل أنحاء البلاد لا سيما في المدن الكبرى على غرار “تونس العاصمة” و”صفاقس” و”سوسة” و”قابس” و”القيروان” و”قفصة” و”سوسة” و”نابل” قادمين من الأحياء الشعبية التي تعد الأحزمة الفقيرة المتاخمة لمدن البلاد.
“السّياسات الارتجالية” أبرز الأسباب
يذهب المفسّرون لاستشراء ظاهرة “أطفال الشوارع” إلى أنّه “في وقت كان فيه “فقراء تونس” يطالبون في احتجاجات شملت مختلف جهات البلاد بحفظ الكرامة وتوفير الشغل وإرساء العدالة الاجتماعية، لكن في المقابل استمرت الحكومات المتعاقبة في انتهاج “سياسات ارتجالية” كان من بين نتائجها توسّع رقعة الفقر وعجز الأسر عن تسديد نفقات لقمة العيش في ظل تدهور مستمرّ للمقدرة الشرائية” بعد أن تراوحت نسبة اشتعال أسعار المواد الغذائية ما بين 100 بالمائة و200 بالمائة”، الأمر الذي أفضى إلى ارتفاع نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية لتتأرجح بين 60 بالمائة و70 بالمائة.
ويؤكّد المفسّرون” أنّ تلك السياسات زادت في نخر قدرة الفقراء على مجابهة الحد الأدنى من تكاليف المعيشة وبات دخل الأسرة الفقيرة الذي لا يتجاوز في أحسن الحالات 300 إلى 400 دينار أي في حال اشتغال الزوج والزوجة ولا يتخطّى 210 دنانير في حال اشتغال أحدهما، وهو ما اضطرّ “فقراء تونس” على إجبار أبنائهم وبناتهم أيضا على الانقطاع عن الدراسة والدفع بهم إلى امتهان مهن وضيعة أو التّسول من أجل توفير لقمة العيش.
اليوم يعيش الشّعب التونسي على مشهد لم يألفه من بؤس الاطفال لا سيما قبيل الثورة لكنهم حاليّا بدأوا يتعودون عليه، كيف لا وهم يشاهدون العشرات من الأطفال ينسلون، جحافل وزرافات، منذ الصّباح الباكر من الأحياء الشعبية على غرار “حي التضامن” و”حيّ الانطلاقة” و “الملاسين” و”حيّ هلال” و”السّيجومي” وغيرها باتّجاه شوارع العاصمة أو باتجاه الأحياء الراقية مثل “حي النصر” و”المنارات” و”المنازه” اضافة إلى أحياء الضاحية الجنوبيّة من بينها “رادس” والزهراء” وغيرها.
وتؤكّد الوقائع المسجّلة والمشاهد اليوميّة الشاخصة للعيان أنّ الأحياء الرّاقية تعدّ “معاقل” الأطفال المشرّدين، من الإناث والذكور، يمسحون الأحذية وبلور السّيارات ويكنسون أمام المحلات التجارية ويبيعون السجائر المهرّبة، ويتسوّلون مستجدين سائقي السّيارات وعابري السّبيل.
من منظور علمي النّفس والاجتماع
أظهرت دراسة أجراها عدد من المختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية في إطار “المركز التونسي للدراسات الاجتماعية” وشملت عينة تتكوّن من 1200 طفل أن 70 بالمائة من العينة التحقوا بأطفال الشوارع بعد “ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي”، وترجع الدراسة ارتفاع عدد أطفال الشوارع خلال السنوات الأربع الماضية إلى “الخطة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية” غير المجدية التي تعرضت إليها الفئات الهشة والمهمّشة أصلا حيث تفاقمت البطالة واستفحل الفقر وازداد المهمشون تهميشا.
ولاحظ الباحث “مهدي الماجري”، من خلال دراسة أجريت على مستوى “تونس العاصمة” أنّ عدد أطفال الشوارع ارتفع منذ الثورة بشكل واضح نتيجة حالة الاضطرابات التي شهدها المجتمع والتي أثّرت بصفة مباشرة على عديد الأسر التونسية”، قائلا: “لقد بدا أطفال الفقراء خلال الثّورة فئة هشة لم تتمكّن من التأقلم مع التحولات التي يشهدها المجتمع ولم تتحمل ضغوطات الانفلات الاجتماعي”.
تظهر الدّراسة أنّ العوامل الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية دفعت بآلاف الأطفال إلى التشرّد في شوارع المدن بحثا عن عمل لمساعدة عائلاتهم، هؤلاء الأطفال 80 بالمائة منهم انقطعوا عن الدّراسة والتحقوا بأطفال الشوارع نتيجة بطالة الأب والأم بعد أن توقفت المؤسسات الاقتصادية التي كانت تشغلهم عن النشاط.
وتقول الأخصائيّة في العلوم الاجتماعية والأستاذة بالجامعة التونسية “رشيدة بن عمار” في إفادة للإعلام التونسي إنّ “أطفال الشوارع في تونس تحولوا إلى ظاهرة اجتماعية، حيث لا يمكن التعامل مع هذه الفئة على أنهم مجرد أطفال مشردين ومهمشين، بل إن المسألة أعمق بكثير، أطفال الشوارع ظاهرة نشأت نتيجة تمزق النسيج الاجتماعي والتفكك الأسري وانتشار الفقر المدقع وفشل السياسات التنموية والاجتماعية”.
وتضيف بن عمار أنّ “أطفال الشوارع” يمثلون “تعبيرة” واضحة عن هشاشة تركيبة المجتمع التونسي الذي عصفت به التّحولات التي خلّفت تفاوتا مجحفا في تقسيم الثروات، إنهم مؤشّر قويّ على أن المجتمع التونسي لا يتكوّن فقط من فئات متماسكة نسبيا وإنما يتركّب أيضا من فئات هشة ومهمشة شأنهم في ذلك شأن المتسولين والمرأة الريفية والعاطلين”.
الإدمان والجريمة
يعدّ الإدمان على المخدرات بأنواعها القاسم المشرك بين أطفال الشوارع والملاذ الأسهل ولكن الأخطر للذين يخففون به من مأساتهم ولو إلى حين إذ اثبتت الدّراسات إن 80 بالمائة من أطفال الشوارع يستهلكون المخدرات وأن 50 بالمائة منهم مدمنون عليها، وتظهر نفس الدراسات أن 40 بالمائة من هذه الشريحة مشردون بالكامل ويتّخذون من البناءات المهجورة ومن المقابر ومن العربات القديمة للقطارات بيوتا لقضاء اللّيل.
وتؤكد معطيات صادرة عن الجهات الرسميّة ذات العلاقة أنّ الجرائم المقترفة من قبل أطفال الشوارع شهدت خلال السنوات الأخيرة تزايدا خطيرا إذ تتصدر السّرقة سلّم الجرائم حيث تبلغ سنويا أكثر من (6) آلاف جريمة تليها جرائم العنف التي تبلغ (5) آلاف حالة ثم الجرائم الجنسية التي تصل إلى 2600 جريمة.
لقمة سائغة للإرهاب
يؤكّد عديد المختصين وفئة واسعة من المتابعين أن أطفال الشوارع لا يشكّلون فقط أرضية خصبة لـ”مجرمين مفترضين” أو قد يتمّ تجنيدهم من طرف شبكات متخصصة في الجريمة المنظمة، وإنّما يمثلون أيضا “ارهابيين محتملين” يسهل تجنيدهم من قبل أطراف تنشط في أعمال الإرهاب، وذلك عبر استغلال هشاشة أوضاعهم النفسية والاجتماعية لا سيما في ظلّ غياب أيّة آلية من آليات الرّعاية والمراقبة.
ويتمّ استقطاب أطفال الشّوارع وتوظيفهم في العمليّات الإرهابيّة من خلال استمالتهم بالمساعدات الماليّة ومن ثمّة تطويعهم لـ”مهمّات” داخل البلاد أو تسفيرهم إلى بؤر التّوتر ومناطق الصّراع حيق كشفت العديد من المصادر الأمنيّة والإعلاميّة المتطابقة أنّ عديد الجماعات المسلّحة والتنظيمات الإٍرهابيّة قامت بتجنيد وترحيل أطفال لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة إلى العراق وسوريا للقتال في صفوف “تنظيم الدولة الإسلامية” أو ما يعرف اختصارا بـ “داعش” إلى جانب تنظيمات وفصائل أخرى.
الحلول والمقترحات
تجدر الإشارة إلى أنّ مصادقة تونس على اتّفاقية الامم المتحدة لحقوق الطّفل وإصدار مجلة حماية الطّفل وتنقيح العديد من القوانين لتحسين الوضعيّة القانونيّة والمدنيّة للطّفل في مختلف المجالات وإصدار العديد من الأوامر والقرارات وإحداث خطة قاضي الاسرة وقاضي الأطفال وتعميم سلك مندوبي حماية الطّفولة كلّ هذا لم يمنع من انتشار ظاهرة أطفال الشوارع بل وفى استفحالها خلال السنوات الأخيرة.
ولكن ذلك لم يمنع أيضا المختصّين من السّعي قدر الإمكان سواء عبر تقديم الآراء أو عرض المقترحات أو طرح الحلول الكفيلة بتقليص ظاهرة “أطفال الشوارع” في اتجاه القضاء عليها شيئا فشيئا، حيث يؤكّد رئيس الجمعيّة التونسية للدفاع عن حقوق الطفل “معزّ الشريف” أنّ “الوقاية أجدى الطرق لمعالجة الظاهرة”، داعيا إلى الإسراع بتفعيل ما ورد في المنشور عدد 6 الصّادر عن وزارة التربية بتاريخ 19 أفريل 2010، والدّاعي إلى “تكوين لجنة خاصّة مشتركة تضمّ مندوبا لحماية الطفولة ومرشدا اجتماعيّا وممثلين عن وزارة المرأة وشؤون الأسرة والشؤون الاجتماعية والدّاخليّة تتولّى مهمّة معرفة أسباب تغيّب أيّ تلميذ يتخلّف عن الدراسة لمدّة تناهز 10 أيّام”.
كما شدّد “الشريف” على ضرورة الرّجوع للنصّ القانوني القاضي بأنّ “المدرسة إجباريّة من 6 إلى 16 سنة” والقطع مع مسألة رفت التلاميذ من المدارس داعيا كافّة مؤسسات الدّولة إلى الحرص على تطبيق “واجب الإشعار بكلّ الحالات التي تتهدّد الطّفل” إلى جانب العمل على توعية الأطفال من تلاميذ المدارس واطلاعهم على حقوقهم في فصول الدّراسة وكلّ ما يخصّ حياتهم المجتمعيّة.
“أطفال الشوارع” لا تقتصر على تونس فحسب كما أنها لا تنحصر في بلدان بعينها ولكنها ظاهرة عالميّة تشمل العالمين المتقدّم والنّامي وما بينهما، واستنادا إلى “المنظمة العالمية للعمل” ومنظمة “اليونيسيف” فإن عدد الصغار المنتمين لهذه الشريحة في العالم يقدر بنحو 120 مليون طفل وأن نصفهم يوجد في أمريكا الجنوبية ونحو 30 مليون منهم في آسيا في حين تقلّ النسبة في البلدان العربيّة وتتقلّص أكثر في دول المغرب العربي، لكنّها تظلّ تطرح أكثر من سؤال وتنتظر أكثر من جواب.