الأيورفيدا، التراث الحي للهند: في خدمة رفاه تونسمن الحكمة القديمة إلى دبلوماسية الرفاه، تواصل الأيورفيدا نسج جسور جديدة بين الهند وتونس

بقلم سفيرة الهند بتونس، الدكتورة ديفياني أوتام خبراجادي:
في 23 سبتمبر 2025، احتفل العالم باليوم العاشر للأيورفيدا، ومرة أخرى، عادت هذه الحكمة القديمة، المتجذّرة بعمق في التراث الهندي، إلى دائرة الضوء العالمية. هذا النظام الصحي الشامل – الذي يعني حرفياً “علم الحياة” – لا يزال يُلهم الشعوب في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك تونس.
في مارس 2025، أعلنَت الحكومة الهندية اعتماد يوم 23 سبتمبر كتاريخ رسمي لليوم الوطني للأيورفيدا، بدلاً من ارتباطه السابق بعيد “دهانتيراس” المتنقّل والمقترن بمهرجان الديوالي. هذا القرار منح الاحتفال تاريخاً ثابتاً على المستوى العالمي وحَمَل دلالة رمزية قوية، إذ يتزامن مع الاعتدال الخريفي، لحظة التوازن التي تنسجم تماماً مع فلسفة الأيورفيدا القائمة على الانسجام بين الجسد والعقل والروح.
الأيورفيدا: بين التقاليد والعلم:
متجذرة في الفيدا، ترى الأيورفيدا أن الصحة هي توازن ديناميكي بين الفرد وبيئته. ويقوم إطارها على الدوشات الثلاث — فاتا، بيتا وكافا — التي توجّه مقاربة شخصية للرفاه عبر التغذية، الأعشاب الطبية، التدليك، التنفس والروتين اليومي (ديناشاريا).
اليوم، تعترف منظمة الصحة العالمية بالأيورفيدا كنظام صحي تقليدي متكامل. كما بدأت الجامعات في الهند وخارجها في دمج الأيورفيدا ضمن برامجها الأكاديمية وعلوم الطب التكميلي. وتُبرز الأبحاث بشكل متزايد أهميتها في الوقاية من الأمراض المزمنة وإدارتها، مع التأكيد في الوقت نفسه على أهمية الوعي الموسمي وذكاء الطبيعة في دعم صحة الإنسان.
ومن أبرز مبادئ الأيورفيدا رؤيتها الدورية للحياة: إذ ترتبط كل مرحلة من اليوم أو السنة أو دورة الحياة البشرية بدوشا مسيطرة. وفهم هذه الإيقاعات يتيح تكييف نمط الحياة لتحقيق انسجام أكبر مع البيئة المحيطة.
حكمة قديمة في عالم حديث:
في عصر يطغى عليه فرط التدخل الطبي والتوتر المزمن، تقدم الأيورفيدا حلولاً طبيعية، مستدامة وعميقة الإنسانية. ممارسات مثل ديناشاريا (الروتين اليومي) وريتشاريّا (الروتين الموسمي) يُعاد اكتشافها كأدوات حقيقية للرفاه المستدام. الأيورفيدا تدعونا إلى الإصغاء لاحتياجاتنا الجسدية والعقلية والعاطفية بحسب تكويننا الفردي (برَكْريتي)، وإلى بناء صحة شخصية متكاملة.
كما بدأت بعض الشركات في دمج الممارسات الأيورفيدية في برامج رفاه الموظفين، من الأنظمة الغذائية المضادة للالتهابات والأعشاب المحوّرة إلى تمارين التنفس والوقفات الواعية. وهكذا تُظهر الأيورفيدا أن المعرفة القديمة قادرة على التكيّف بأناقة مع متطلبات الحياة المعاصرة.
الأيورفيدا في تونس: اهتمام متزايد:
في تونس، تطوّر حضور الأيورفيدا تدريجياً بفضل مبادرات السفارة الهندية وبعض الممارسين المحليين. وكان عام 2019 نقطة تحول حين مثّلت تونس لأول مرة في جولة سفراء الأيورفيدا التي نظمها وزارة الأيوش (وزارة شؤون الأيورفيدا واليوغا والطب الطبيعي وأيورفيدا واليوناني والوخز بالإبر) الهندية وجمعية ترويج الأيورفيدا. وقد تم اختيار نهال بشيني كسفيرة للأيورفيدا لتمثيل تونس في هذه المبادرة التاريخية.
منذ ذلك الحين، وجدت الأيورفيدا طريقها شيئاً فشيئاً إلى البيوت والفضاءات الصحية في تونس، وهو مسار تعزّز بشكل خاص خلال جائحة كوفيد-19. إذ ساعدت الورشات الافتراضية والاستشارات المجانية التونسيين على إدارة التوتر والقلق والمناعة بطرق طبيعية. وفي الوقت نفسه، تم إدخال منتجات أيورفيدية — مثل مساحيق الأعشاب، الزيوت والمشروبات العشبية — بينما بدأت مراكز الصحة بتقديم تدليك أبيانغا، برامج تنظيف الجسم (ديتوكس) وحميات غذائية مستوحاة من النكهات الأيورفيدية الست. هذه الجهود أرست دعائم مجتمع أيورفيدي نابض بالحياة في تونس.
التعليم، نقل المعرفة ودبلوماسية الرفاه:
تمتلك الأيورفيدا إمكانات كبيرة للمدارس المتخصصة في العلاج الطبيعي، مراكز تدريب التدليك والفضاءات الصحية التكاملية. فهي لا تقتصر على رفاه الفرد فقط، بل أصبحت أداة دبلوماسية ناعمة تبني جسوراً بين الهند وتونس.
يمكن تعزيز التعاون الثنائي عبر برامج تبادل، تكوينات معتمدة وحتى منشورات علمية مشتركة. إن الترويج للأيورفيدا هو أيضاً ترويج لسيادة الرفاه والتمكين الفردي من خلال الحكمة القديمة. وتلعب سفارة الهند دوراً محورياً في هذه الديناميكية، إذ أسهمت مبادراتها في رفع الوعي لدى الجمهور التونسي وزرع بذور تحوّل شامل للجسد والروح.
يوم الأيورفيدا والسياحة 2025: فصل جديد:
شهد عام 2025 محطة جديدة في مسار الأيورفيدا بتونس. ففي 23 سبتمبر 2025، وبمناسبة اليوم الوطني للأيورفيدا واليوم العالمي للسياحة، استضافت تونس احتفالاً تاريخياً بعنوان “يوم الأيورفيدا والسياحة 2025” تحت الشعار الملهم: “الأيورفيدا من أجل الشعوب والكوكب. “
نُظم هذا الحدث من طرف سفارة الهند في تونس بدعم من وزارة الأيوش وشركاء تونسيين، مسلطاً الضوء على الأيورفيدا كجسر بين التراث والفرص الحديثة.
جمع الحدث صناع القرار، خبراء الرفاه، وكالات السفر والمستثمرين، ليشكّل منصة ديناميكية حيث التقت الثقافة بالتجارة. وقدمت العروض العملية للعلاجات الأيورفيدية، ومداخلات الخبراء القادمين من الهند، والنقاشات المهنية الحية صورة ملموسة عن قدرة هذه الحكمة القديمة على فتح آفاق جديدة لقطاعي الرفاه والسياحة في تونس.
أكثر من مجرد واجهة ثقافية، شكّل هذا الحدث منعطفاً تاريخياً: إذ ساعد على وضع تونس ضمن حركة السياحة الصحية العالمية وتعزيز روابط التعاون مع الهند. وبالنسبة للجمهور التونسي، كان دعوة لاكتشاف الأيورفيدا ليس فقط كنظام صحي شامل، بل أيضاً كمحرّك للرفاه المستدام والتبادل الاقتصادي.
جسر حي بين الهند وتونس:
بعيداً عن العلاجات، تُجسّد الأيورفيدا فلسفة حية — دعوة إلى الإصغاء للجسد، احترام دورات الطبيعة وعيش حياة واعية.
وتجد تونس، بفضل حكمتها الشعبية وتقاليدها في العلاج بالأعشاب، صدى طبيعياً مع الأيورفيدا. فالممارسات البسيطة — مثل شرب الماء الدافئ صباحاً، إضافة الكركم للطعام أو ممارسة التدليك الذاتي — أصبحت بالفعل جزءاً من الحياة اليومية للتونسيين.
نحو اعتراف عالمي:
مع توسّع حضورها عالمياً، تكثّف الهند جهودها: من توقيع 15 بروتوكول تعاون مع مؤسسات أكاديمية وبحثية، إلى شراكة فعّالة مع منظمة الصحة العالمية. ففي نوفمبر 2023، تم التوصل إلى اتفاق متعدد السنوات لتطوير معايير تقنية، مصطلحات موحّدة وبرامج تدريبية في مجال الطب التقليدي، التكميلي والاندماجي.
ويهدف هذا التعاون أيضاً إلى إدماج الأيورفيدا وأنظمة أخرى في التصنيف الدولي لتدخلات الصحة، بما يضمن الاعتراف العالمي بعلاجات مثل البانشاكارما، العلاج باليوغا والممارسات السِّدَّا. كما يدعم هذا الاتفاق المركز العالمي للطب التقليدي التابع للمنظمة في جامناغار، المخصّص للبحث، السلامة والتنوع البيولوجي الطبي.
ومن خلال هذه المبادرات، أصبحت الأيورفيدا جزءاً أساسياً من الدبلوماسية الصحية والتعاون الدولي للهند. واليوم، لم تعد الهند فقط أرض اليوغا والأيورفيدا، بل غدت قطباً عالمياً للسياحة الصحية، حيث يبحث المسافرون عن الشفاء الطبيعي، السلام الداخلي والتجديد الروحي.