في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات وتتعقّد فيه لغة الأرقام، يبرز سؤال أساسي: هل يمكن للمواطن أن يفهم ميزانية دولته؟ وهل من حقّه أن يشارك في رسم أولوياتها؟
تونس تقدّم اليوم جواباً عملياً: نعم وبقوة.
من ابن خلدون إلى المواطن المعاصر: رحلة نحو حكمٍ يضع الناس في مركزه:
قبل قرون، رسم ابن خلدون ملامح الحكم الرشيد: العدالة، الشفافية، والثقة بين الدولة والمجتمع، واليوم تعود هذه المبادئ لتتجسّد في مشروع وطني حديث يحمل روح ذلك التراث الفكري العميق: “ميزانية المواطن للجميع”، وهي مبادرة تهدف إلى تقريب ميزانية الدولة من الناس بلغة واضحة بعيداً عن التعقيد، حتى يفهمها المواطن كما يفهم مصاريف بيته.
مبادرة تُعيد للمواطن صوته ومكانته:
أُطلقت هذه المبادرة بالشراكة مع مكونات المجتمع المدني، لتجعل من المواطن شريكاً فعلياً في فهم وتقييم ومتابعة ميزانية الدولة، لا مجرد متابع يقف على الهامش.
والأهم أنّ المبادرة تم تنفيذها من قبل ائتلاف من الجمعيات الأعضاء في المنتدى المدني التونسي لشراكة الحكومة المفتوحة (OGP Tunisia Civil Society Forum)، في تجربة تعكس قوة العمل الجماعي، ودور المجتمع المدني في تعزيز الشفافية والمساءلة.
تنفيذ محكم وبصمة واضحة على أرض الواقع:
جاء تنفيذ المشروع ضمن خطة عمل «الحكومة المنفتحة» OGP، وبالتعاون مع Expertise France، ليقدّم نموذجاً عملياً لتفعيل الشفافية الحكومية.
تم تطوير نسخة مبسّطة من مشروع ميزانية 2026، تُقرأ بسهولة وتصل إلى مختلف الفئات، بما في ذلك الأشخاص حاملي الإعاقة، في خطوة تُرسّخ مبدأ العدالة المعرفية.
مؤشرات نجاح تُقاس بالمشاركة لا بالأرقام فقط:
خلال سنة واحدة فقط، حققت المبادرة نتائج لافتة:
أكثر من 1055 مشاركاً في الاستبيانات واللقاءات التوعوية.
إطلاق حملة وطنية لفهم ميزانية الدولة وأثرها المباشر على حياة المواطن.
تبسيط الخطاب المالي وتحويله من لغة تقنية إلى لغة يومية قريبة من الناس.
تعزيز الحوار العمومي بين المواطنين وصنّاع القرار حول أولويات الإنفاق العام.
الأهم أنّ المشروع فتح الباب أمام ممارسة ديمقراطية جديدة:
أن يسأل المواطن، وأن يقدّم رأيه، وأن يتحوّل المال العام من مفهوم غامض إلى موضوع للنقاش المسؤول.
استهداف واسع ورسالة واحدة: المعرفة حق للجميع:
المبادرة انفتحت على شرائح واسعة: المجتمع المدني، الإعلام، الشباب، المثقفين، والأشخاص حاملي الإعاقة.
الهدف كان واضحاً: أن تكون معرفة الميزانية متاحة للجميع، دون استثناء.
من الفهم إلى الفعل:
«ميزانية المواطن للجميع» ليست مجرد مشروع، بل خطوة أولى نحو تغيير عميق في علاقة المواطن بدولته ، فعندما يفهم الناس ميزانيتهم، يصبحون قادرين على:الدفاع عن حقوقهم،مساءلة المسؤولين،إقتراح بدائل حقيقية، والمشاركة الفعّالة في صياغة مستقبلهم.
هذه المبادرة تقول بصوت واضح:
تونس أقوى حين يكون مواطنوها جزءاً من القرار لا مجرّد متفرجين عليه ، وهي دعوة لشفافية أكبر، ومسؤولية أوسع، ومجتمع يؤمن بأن المعرفة حق وأن المشاركة واجب.
نادرة الفرشيشي
