الطّبقة المتوسطة تنهار: أكثر من 8 آلاف مليار قيمة “الرّوج البنكي”
تشير بعض الدراسات الديموغرافية المختلفة إلى أن تونس كانت، إلى حدود وقت قريب، تحتل المرتبة الأولى أفريقيًا من حيث نسبة الطبقة الوسطى التي تمثل 50 بالمائة، والطبقة الوُسطى تقنيًا هي مفهوم سياسي قبل أن يكون اقتصادي باعتبارها الوسيط بين رأس المال والعمل، وتتكون من مجموعتين، الأولى تتمثل في التّجار وأصحاب الشّركات الصغيرة والذين لا يؤهلهم دخلهم، في غالب الأحيان، للانضمام لذوي النفوذ والجاه في الحياة السياسية، أما المجموعة الثانية، فتتكوّن أصحاب المهن المختلفة ومن ضمنهم الموظفين.
ويعتبر بعض الخبراء أن الطّبقة الوسطى محرك أساسي للحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقد تطورت منذ السبعينات حتى أنها وصلت في بعض الفترات إلى نسبة عالية قدرت ما بين 75 و80 بالمائة، وساهمت الثورة والحراك الذي أنتجته في إدخال تغييرات في شكل الهرم السكاني اجتماعيًا، وأساسًا منطقة الوسط، إذ ساهم مناخ الحرية في بروز طبقة جديدة من رجال الأعمال كانوا بالأمس ضمن النصف الأعلى للطبقة الوسطى، كما أدى تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع المعيشة وتدهور القوة الشرائية في التحاق نسبة كبيرة من النصف الآخر بالطبقة الفقيرة أو المهددة بالفقر.
انحدار اجتماعي واستهلاكي
تبرز المعطيات تدهورا كبيرا في مستوى المقدرة الشرائية للتونسيين خلال السنوات الخمس (5) الأخيرة بـنسبة 40 بالمائة، كما تكشف المؤشرات المسجّلة حديثا أنّ الطبقة المتوسطة صارت تمثّل أقل من 60 بالمائة من التّونسيين، حيث يرجع الخبراء هذا الانحدار النوعي للفئة المتوسطة للشعب التونسي إلى عدّة عوامل رئيسيّة، أهمها الارتفاع المشطّ في قيمة الجباية الموظفة على المواطنين في جميع أشكال المعاملات والخدمات، إلى جانب البطالة التي نخرت عشرات الآلاف من الأسر، وخاصة غلاء المعيشة بكافة أشكالها، اضافة إلى تنامي نسبة الفوائض الموظّف على القروض الاستهلاكية لا سيما بالنسبة لصغار الموظفين والشغّالين وفق الأجور الدّنيا.
ويجمع الخبراء على أنّ الهوّة بين الطبقات في تونس تزداد اتساعا في الاتجاه السلبي، وأنّ “الطبقة المتوسّطة” مهدّدة بالتآكل وتتّجه، شيئا فشيئا، نحو الاضمحلال، مفسّرين ذلك بجملة من الظواهر السلبيّة التي تفاقمت في البلاد من ذلك تراجع مستوى الاستهلاك والعزوف عن اقتناء البضائع والمنتوجات ذات الجودة العالية وحتّى المتوسّطة، إلى جانب التراجع الملحوظ لدى الفئة المتوسطة على صعيد الأناقة والهندام اضافة إلى إقدام كثيرين عن بيع منازلهم الفخمة نوعا ما واقتناء مساكن عاديّة، وكذلك إقدام البعض الآخر على التفريط في سياراتهم الفخمة أو متوسطة القيمة واستبدالها بأخرى شعبيّة أو التخلّي عنها نهائيّا واللّجوء إلى استعمال سيّارات الأجرة ووسائل النقل العمومي والخاصّ.
8 آلاف مليار قيمة “الرّوج البنكي
كان نائب رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك “سليم سعد الله” قد نبّه في أكثر من مناسبة إلى تآكل الطبقة المتوسطة وتراجع المقدرة الشرائية للمواطن التونسي، مشيرا الى أن التونسي قد تغيّر سلوكه الغذائي ونظامه في الأكل وسلوكياته ونوعية اطباقه وقفته، حيث أن شريحة كبرى من التّونسيين أمسوا يعتمدون على البيض في وجباتهم الغذائيّة بدل اللحوم الحمراء، كما تراجعت نسبة توجّه التّونسيين إلى مراكز التّرفيه وقضاء أوقات للترويح عن النفس.
من جهته الدكتور مراد الحطاب المختص في المخاطر المالية قد حذر من تفاقم ما يعرف بـ “الرّوج” عند التونسيين، لافتا إلى أن هناك حوالي 900 ألف تونسي غارقون في “السلفات البنكيّة على الرّاتب”، واعتبر أن تداين التونسي لم يعد مقتصرا على البنوك فحسب، بل تجدّدت أشكال “الشراء بالكريدي” والاقتراض من الأصدقاء والشراء بالتقسيط الشهري وهي طرق يعتمدها التونسيون في مواجهة كثرة المصاريف. ملاحظا أن معدل اجر التونسيين الذي هو في حدود 800 دينار يعتبر أجرا ضعيفا ويجعله في تبعية دائمة للبنوك والتّداين.
وتؤكّد أرقام المعاملات البنكيّة في البلاد التونسيّة أنّ قيمة ما يصطلح عليه بـ “الرّوج” تخطّت مستوى 8 آلاف مليار.
ضرائب مشطّة وامكانيات ضعيفة
هناك اتجاه عامّ في تونس يفسّر ظاهرة تراجع الطبقة الوسطى وتآكلها بأنها مستهدفة كثيرا بالأداءات والضرائب التي ما تنفكّ تتكاثر وتتنوّع وترتفع قيمتها لتشمل كافة مجالات الحياة وجميع مرافق الخدمات، حيث يدفع التونسي لا سيما المنحدر من الطبقات المتوسّطة وحتّ الضعيفة فاتورة باهظة الكلفة، لكن في المقابل لا يجد الإمكانيّات والتمويلات التي تساعد على سداد هذه الضرائب المشطّة.
ويؤكّد أصحاب الرأي الغالب في البلاد أنّ المنتمين إلى الطبقة الوسطى يعانون حاليّا من ضعف احتمال الحصول على تمويلات بنكية جرّاء الإجراءات الوقائيّة التي يتخذها البنك المركزي التونسي بين وقت وآخر تتعلّق بمزيد الحد من الحصول على القروض الاقتصادية والاستهلاكية، هذه النوعيّة من القروض التي تعدّ إحدى آليات تمويل التونسي لمجابهة مصاريفه وتمويل حاجياته الاستهلاكية.
الفقراء الجدد
وفق آخر دراسة لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في تونس، ازدادت نسبة الفقر خلال السنوات الأربع الماضية بنحو 30 بالمائة، بعدما اختفت بعض شرائح الطبقة الوسطى، بسبب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد وارتفاع الأسعار.
وشملت الدراسة 5300 عينة، لتخلُص إلى أن الفقراء الجدد يمثلون نحو 30 بالمائة من إجمالي عدد الفقراء في البلاد، الذين يقدّرون بنحو (2) مليونين من أصل ما يناهز (10) عشرة ملايين نسمة، حيث تُعرّف الدراسة “الفقراء الجدد” بـ”صغار الموظفين في الإدارات الرسمية والأساتذة في المدارس الابتدائية، والعمال والأجراء الذين لا يتجاوز دخلهم الشهري 700 دينار في الشّهر.
واستنادا إلى الدراسة ذاتها، يتركّز الفقر في ولايات الوسط الغربي، حيث يعيش 29.4 بالمائة من السكان تحت خط الفقر، تليها ولايات الجنوب الغربي بنسبة 14.7 بالمائة، ثم مناطق الجنوب الشرقي بنسبة 11.4 بالمائة، ومناطق الشمال الغربي بنسبة 11.1 بالمائة، في حين تبلغ نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى في ولايات الشمال الشرقي 9 بالمائة.
أثرياء جدد
تغيّرت الصورة المجتمعيّة في تونس بعد الثورة بشكل جذري وبصفة دفعت بالطبقة الوسطى للانحدار نحو الطبقة الفقيرة، فيما برزت فئة، لم يكن بروزها منتظرا، من الأثرياء الجدد معظمهم ممن اكتسب الثّروات من التهريب والتجارة الموازية.
وقد حذر خبراء في الاقتصاد من الوصول بالبلد لوضع طبقتين طبقة فقيرة وأخرى غنية، وطبقة “أثرياء موازين” ستزيد في تعميق الفجوة المجتمعيّة كون الثراء الذي بلغته لا تقابله معاملات اقتصاديّة أو تجاريّة تجري في أطرها الطبيعيّة وفي مسالكها القانونيّة.
فساد وغياب الرّدع
تذكر بعض التقارير الإعلاميّة أنّ العديد ممن فقدوا مكانتهم الاجتماعية جنحوا الى طرق غير مشروعة للإثراء واسترداد هذه المكانة الاجتماعية، ولو بالرشوة والفساد نتيجة إلى ضوابط اجتماعية ومقاييس جديدة فرضت مع محدودية الامكانيات، واللجوء حتى للتحيل من أجل المكانة الاجتماعية والصورة العامة والـ “فيس” الذي يميّز المجتمع الاستهلاكي الجديد.
وقد كشفت دراسات أنجزت خلال السنتين الأخيرتين وجود عوامل عديدة زادت الطين بلة بعد الثورة منها التّهريب والانفلات الامني والمخدرات والسلاح، وهي عوامل تجعل البعض يسلك طريق الجريمة والاعتداء والتحوّز على الممتلكات العامّة وافتكاك الأملاك الخاصّة دون وجه حقّ وذلك رغبة في الإثراء السريع في ظلّ غياب الردع بسبب استمرار عدم إنفاذ القانون وتنزيل العقاب الجزائي المستوجب.
دور القرار السياسي
لم تولد الطبقة الوسطى في تونس كنتيجة طبيعيّة للتنظيم الاقتصادي للمجتمع، بل تكوّنت في إطار هندسة اجتماعية لعب فيها القرار السياسي دورًا أساسيًا، إذ دفع توجه البلاد نحو الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات النظام البورقيبي إلى التفكير في بناء قاعدة اجتماعية يرتكز عليها تكون قادرة على منحه نوعًا من الاستقرار، خصوصًا بعد فشل “تجربة التعاضد” في نهاية الستينيات وكان بناء هذه الطبقة ضروريًا لتمكين الصناعة المحلية حديثة العهد من سوق داخلية تتيح لها تسويق إنتاجها.
واليوم، تونس ليست أحسن حالاً وتبدو الحاجة لتثبيت الطبقة الوسطى ضرورية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، فرغم تشجيع الشباب على الاستثمار، تتمحور أغلب الأنشطة حول الخدمات ذات القيمة المضافة المحدودة التي لا تنفع في سياق البناء الاقتصادي.
ويبدو اليوم أن إثقال كاهل الطبقة الوسطى قد يكون حلاً سهلاً على الورق لكنه قد يفضي لتحركات اجتماعية من شأنها أن تعيد البلاد إلى نقطة الصفر، وهو ما يطرح بقوة ضرورة تعمق الساسة في هذه المسألة والإسراع بفتح ملف العدالة الجبائية بجدية، الأمر الذي قد يعدل في عديد الموازنات متى توفرت الجرأة اللازمة.
وتجدر الإشارة إلى أن آخر الدراسات كشفت عن ارتفاع عدد المليونيرات والمليارديرات بعد الثورة، بحسب مؤسسة ” New World Wealth ” في تقريرها الصادر منذ سنتين يوجد في تونس 6500 مليونير و70 مليارديرًا.